سورة الأعراف - تفسير تفسير الشوكاني

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأعراف)


        


قوله: {وَلِكُلّ أُمَّةٍ أَجَلٌ} أي وقت معين محدود ينزل فيه عذابهم من الله أو يميتهم فيه، ويجوز أن تحمل الآية على ما هو أعم من الأمرين جميعاً. والضمير في {أَجَلُهُمْ} لكل أمة أي إذا جاء أجل كل أمة من الأمم كان ما قدّره عليهم واقعاً في ذلك الأجل، لا يستأخرون عنه ساعة ولا يستقدمون عنه ساعة. قال أبو السعود ما معناه: إن قوله: {وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} عطف على {يستأخرون} لكن {لا} لبيان انتفاء التقدّم، مع إمكانه في نفسه كالتأخر، بل للمبالغة في انتفاء التأخر بنظمه في سلك المستحيل عقلاً. وقيل المراد بالمجيء الدنوّ بحيث يمكن التقدّم في الجملة كمجيء اليوم الذي ضرب لهلاكهم ساعة منه وليس بذاك. وقرأ ابن سيرين: {آجالهم} بالجمع، وخصّ الساعة بالذكر لأنها أقل أسماء الأوقات.
وقد استدل بالآية الجمهور على أن كل ميت يموت بأجله، وإن كان موته بالقتل أو التردي أو نحو ذلك، والبحث في ذلك طويل جدّاً، ومثل هذه الآية قوله تعالى: {مَّا تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَهَا وَمَا يَسْتأخِرُونَ} [الحجر: 5، المؤمنون: 43]. قوله: {يابنى آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ} الآية: (أن) هي الشرطية، و{ما} زائدة للتوكيد، ولهذا لزمت الفعل النون المؤكدة. والقصص قد تقدّم معناه، والمعنى: إن أتاكم رسل كائنون منكم يخبرونكم بأحكامي ويبينونها لكم، {فَمَنِ اتقى وَأَصْلَحَ} أي اتقى معاصي الله، وأصلح حال نفسه باتباع الرسل وإجابتهم {فَلاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} وهذه الجملة الشرطية هي الجواب للشرط الأوّل. وقيل جوابه ما دلّ عليه الكلام، أي إما يأتينكم رسل منكم يقصون عليكم آياتي، فأطيعوهم. والأوّل أولى، وبه قال الزجاج. {والذين كَذَّبُواْ بئاياتنا} التي يقصها عليهم رسلنا {واستكبروا} عن إجابتها، والعمل بما فيها {فأولئك أصحاب النار هُمْ فِيهَا خالدون} لا يخرجون منها، بسبب كفرهم بتكذيب الآيات والرسل. {فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افترى عَلَى الله كَذِبًا أَوْ كَذَّبَ بئاياته} أي لا أحد أظلم منه.
وقد تقدّم تحقيقه. والإشارة بقوله: {أولئك} إلى المكذبين المستكبرين {يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب} أي مما كتب الله لهم من خير وشرّ. وقيل: ينالهم من العذاب بقدر كفرهم. وقيل: الكتاب هنا القرآن لأن عذاب الكفار مذكور فيه. وقيل هو اللوح المحفوظ.
قوله: {حتى إِذَا جَاءتْهُمْ رُسُلُنَا} أي إلى غاية هي هذه. وجملة {يَتَوَفَّوْنَهُمْ} في محل نصب على الحال. والمراد بالرسل هنا: ملك الموت وأعوانه. وقيل: {حتى} هنا هي التي للابتداء. ولكن لا يخفى أن كونها لابتداء الكلام بعدها لا ينافي كونها غاية لما قبلها. والاستفهام في قوله: {أَيْنَ مَا كُنتُمْ تَدْعُونَ مِن دُونِ الله} للتقريع والتوبيخ، أي أين الآلهة التي كنتم تدعونها من دون الله وتعبدونها؟ وجملة {قَالُواْ ضَلُّواْ عَنَّا} استئنافية بتقدير سؤال وقعت هي جواباً عنه، أي ذهبوا عنا وغابوا فلا ندري أي هم؟ {وَشَهِدُواْ عَلَى أَنفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كَانُواْ كافرين} أي أقرّوا بالكفر على أنفسهم.
قوله: {قَالَ ادخلوا فِى أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلِكُم} القائل: هو الله عزّ وجلّ، {وفي} بمعنى (مع)، أي مع أمم. وقيل: هي على بابها. والمعنى: ادخلوا في جملتهم. وقيل: هو قول مالك خازن النار. والمراد بالأمم التي قد خلت من قبلهم من الجن والإنس: هم الكفار من الطائفتين من الأمم الماضية {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ} من الأمم الماضية {لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} أي الأمة الأخرى التي سبقتها إلى النار، وجعلت أختاً لها باعتبار الدين، أو الضلالة، أو الكون في النار {حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا} أي تداركوا. والتدارك: التلاحق والتتابع، والاجتماع في النار. وقرأ الأعمش {تداركوا} على الأصل من دون إدغام. وقرأ ابن مسعود: {حتى إِذَا ادركوا} أي: أدرك بعضهم بعضاً.
وروي عن أبي عمرو أنه قرأ بقطع ألف الوصل، فكأنه سكت على {إذا} للتذكر، فلما طال سكوته، قطع ألف الوصل كالمبتدئ بها. وهو مثل قول الشاعر:
يا نفس صبراً كل حيّ لاقى *** وكل اثنين إلى افتراق
{قَالَتْ أُخْرَاهُمْ لأولاهم} أي أخراهم دخولاً لأولاهم دخولاً. وقيل {أخراهم}: أي سفلتهم وأتباعهم {لأولاهم} لرؤسائهم وكبارهم. وهذا أولى كما يدل عليه {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا} فإن المضلين هم الرؤساء. ويجوز أن يراد أنهم أضلوهم لأنهم تبعوهم واقتدوا بدينهم من بعدهم، فيصح الوجه الأوّل، لأن أخراهم تبعت دين أولاهم.
قوله: {فَآتِهِمْ عَذَاباً ضِعْفاً مِّنَ النار} الضعف الزائد على مثله مرة أو مرات. ومثله قوله تعالى: {رَبَّنَا ءاتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ العذاب والعنهم لَعْناً كبيرا} [الأحزاب: 68] وقيل: الضعف هنا الأفاعي والحيات، وجملة {قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ} استئنافية جواباً لسؤال مقدّر، والمعنى لكل طائفة منكم ضعف من العذاب، أي الطائفة الأولى والطائفة الأخرى {ولكن لاَّ تَعْلَمُونَ} بما لكل نوع من العذاب {وَقَالَتْ أولاهم لأخْرَاهُمْ} أي قال السابقون للاحقين، أو المَّتَبعُونَ للتابعين {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} بل نحن سواء في الكفر بالله واستحقاق عذابه. {فَذُوقُواْ} عذاب النار، كما ذقناه {بِمَا كُنتُمْ تَكْسِبُونَ} من معاصي الله والكفر به.
وقد أخرج ابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، والخطيب، وابن النجار، عن أبي الدرداء قال: تذاكرنا زيادة العمر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقلنا من وصل رحمه أنسئ في أجله فقال: «إنه ليس بزائد في عمره، قال الله تعالى: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} ولكن الرجل يكون له الذرية الصالحة، فيدعون الله من بعده، فيبلغه ذلك، فذلك الذي ينسأ في أجله»
وفي لفظ: «فيلحقه دعاؤهم في قبره، فذلك زيادة العمر» وهذا الحديث ينبغي أن يكشف عن إسناده، ففيه نكارة، وقد جاءت الأحاديث الصحيحة في الصحيحين وغيرهما بخلافه.
وأخرج ابن أبي حاتم، عن سعيد بن أبي عروبة، قال: كان الحسن يقول: ما أحمق هؤلاء القوم يقولون اللهم أطل عمره، والله يقول: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ}.
وأخرج عبد الرزاق، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، من طريق الزهري، عن ابن المسيب قال: لما طعن عمر قال كعب: لو دعا الله لأخر في أجله، فقيل له: أليس قد قال الله: {فَإِذَا جَاء أَجَلُهُمْ لاَ يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلاَ يَسْتَقْدِمُونَ} فقال كعب: وقد قال الله: {وَمَا يُعَمَّرُ مِن مُّعَمَّرٍ وَلاَ يُنقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِى كتاب} [فاطر: 11].
وأخرج الفريابي، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عباس، في قوله: {أُوْلَئِكَ يَنَالُهُمْ نَصِيبُهُم مّنَ الكتاب} قال: ما قدر لهم من خير وشرّ.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، عنه، في الآية قال: من الأعمال، من عمل خيراً جزى به، ومن عمل شرّاً جزى به.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عنه، أيضاً قال: نصيبهم من الشقاوة والسعادة.
وأخرج عبد ابن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، عن مجاهد، في الآية قال: ما سبق من الكتاب.
وأخرج ابن أبي شيبة، وابن المنذر وابن أبي حاتم عن محمد بن كعب في الآية قال: رزقه وأجله وعمله.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن أبي صالح، في الآية قال: من العذاب.
وأخرج عبد بن حميد عن الحسن مثله.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن السديّ، في قوله: {قَدْ خَلَتْ} قال: قد مضت {كُلَّمَا دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَّعَنَتْ أُخْتَهَا} قال: كلما دخلت أهل ملة لعنوا أصحابهم على ذلك، يلعن المشركون المشركين، واليهود اليهود، والنصارى النصارى، والصابئون الصابئين، والمجوس المجوس، تلعن الآخرة الأولى {حَتَّى إِذَا اداركوا فِيهَا جَمِيعًا قَالَتْ أُخْرَاهُمْ} الذين كانوا في آخر الزمان {لأولاهم} الذين شرعوا لهم ذلك الدين {رَبَّنَا هَؤُلاء أَضَلُّونَا فَئَاتِهِمْ عَذَابًا ضِعْفًا مّنَ النار قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ} الأولى والآخرة {وَقَالَتْ أولاهم لأخْرَاهُمْ فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} وقد ضللتم كما ضللنا.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مجاهد، في قوله: {عَذَاباً ضِعْفاً} قال: مضاعفاً {قَالَ لِكُلّ ضِعْفٌ} قال: مضاعف، وفي قوله: {فَمَا كَانَ لَكُمْ عَلَيْنَا مِن فَضْلٍ} قال: تخفيف من العذاب.


قوله: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء} قرأ ابن عباس، وحمزة، والكسائي بفتح التحتية، لكون تأنيث الجمع غير حقيقي فجاز تذكيره. وقرأ الباقون بالفوقية على التأنيث. وقرأ أبو عمرو، وحمزة، والكسائي، {تفتح} بالتخفيف. وقرأ الباقون بالتشديد، والمعنى: أنها لا تفتح أبواب السماء لأرواحهم إذا ماتوا.
وقد دلّ على هذا المعنى، وأنه المراد من الآية ما جاء في الأحاديث الصحيحة، أن الملائكة إذا انتهوا بروح الكافر إلى السماء الدنيا يستفتحون فلا تفتح لهم أبواب السماء. وقيل: لا تفتح أبواب السماء لأدعيتهم إذا دعوا، قاله مجاهد والنخعي. وقيل لأعمالهم، أي لا تقبل، بل تردّ عليهم فيضرب بها في وجوههم. وقيل المعنى: أنها لا تفتح لهم أبواب الجنة يدخلونها، لأن الجنة في السماء، فيكون على هذا القول العطف لجملة {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة} من عطف التفسير، ولا مانع من حمل الآية على ما يعم الأرواح والدعاء والأعمال، ولا ينافيه ورود ما ورد من أنها لا تفتح أبواب السماء لواحد من هذه، فإن ذلك لا يدل على فتحها لغيره، مما يدخل تحت عموم الآية.
قوله: {وَلاَ يَدْخُلُونَ الجنة حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط} أي أن هؤلاء الكفار المكذبين المستكبرين، لا يدخلون الجنة بحال من الأحوال، ولهذا علقه بالمستحيل، فقال: {حتى يَلِجَ الجمل فِى سَمّ الخياط} وهو لا يلج أبداً، وخص الجمل بالذكر، لكونه يضرب به المثل في كبر الذات، وخص سمّ الخياط، وهو ثقب الإبرة بالذكر، لكونه غاية في الضيق. والجمل: الذكر من الإبل، والجمع جمال وأجمال وجمالات. وإنما يسمى جملاً إذا أربع. وقرأ ابن عباس {الجُمَّل} بضم الجيم وفتح الميم مشدّدة. وهو حبل السفينة الذي يقال له القلس. وهو حبال مجموعة قاله ثعلب. وقيل الحبل الغليظ من القنب. وقيل الحبل الذي يصعد به في النخل. وقرأ سعيد بن جبير {الجُمَل} بضم الجيم وتخفيف الميم: وهو القلس أيضاً. وقرأ أبو السماك {الجُمْل} بضم الجيم وسكون الميم. وقرئ أيضاً بضمهما. وقرأ عبد الله بن مسعود {حتى يلج الجمل الأصغر في سم الخياط} وقرئ: {فِى سَمّ} بالحركات الثلاث. والسم: كل ثقب لطيف، ومنه ثقب الإبرة. والخياط ما يخاط به يقال خياط ومخيط. {وكذلك نَجْزِى المجرمين} أي مثل ذلك الجزاء الفظيع نجزي المجرمين، أي جنس من أجرم وقد تقدّم تحقيقه. والمهاد: الفراش، والغواش جمع غاشية، أي نيران تغشاهم من فوقهم كالأغطية {وكذلك نَجْزِى الظالمين} أي مثل ذلك الجزاء العظيم نجزى من اتصف بصفة الظلم.
قوله: {لاَ نُكَلّفُ نَفْسًا إِلاَّ وُسْعَهَا} أي لا نكلف العباد إلا بما يدخل تحت وسعهم ويقدرون عليه.
ولا نكلفهم ما لا يدخل تحت وسعهم. وهذه الجملة معترضة بين المبتدأ والخبر. ومثله: {لاَ يُكَلّفُ الله نَفْساً إِلاَّ مَا ءاتَاهَا} [الطلاق: 7] وقرأ الأعمش {تكلف} بالفوقية ورفع {نفس} والإشارة بقوله: {أولئك} إلى الموصول، وخبره {أصحاب الجنة} والجملة خبر الموصول. وجملة {هُمْ فِيهَا خالدون} في محل نصب على الحال.
قوله: {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ} هذا من جملة ما ينعم الله به على أهل الجنة، أن ينزع الله ما في قلوبهم من الغلّ على بعضهم بعضاً، حتى تصفو قلوبهم ويودّ بعضهم بعضاً، فإن الغلّ لو بقي في صدورهم كما كان في الدنيا، لكان في ذلك تنغيص لنعيم الجنة، لأن المتشاحنين لا يطيب لأحدهم عيش مع وجود الآخر. والغلّ: الحقد الكامن في الصدور. وقيل: نزع الغلّ في الجنة، أن لا يحسد بعضهم بعضاً في تفاضل المنازل {وَقَالُواْ الحمد لِلَّهِ الذى هَدَانَا لهذا} أي لهذا الجزاء العظيم، وهو الخلود في الجنة، ونزع الغلّ من صدورهم، والهداية هذه {لهذا} هي الهداية لسببه من الإيمان والعمل الصالح في الدنيا {وَمَا كُنَّا لِنَهْتَدِىَ} قرأ ابن عامر بإسقاط الواو، وقرأ الباقون بإثباتها، وما كنا نطيق أن نهتدي بهذا الأمر لولا هداية الله لنا، والجملة مستأنفة أو حالية، وجواب {لولا} محذوف يدل عليه ما قبله، أي لولا هداية الله لنا ما كنا لنهتدي.
قوله: {لَقَدْ جَاءتْ رُسُلُ رَبّنَا بالحق} اللام لام القسم، قالوا هذا لما وصلوا إلى ما وصلوا إليه من الجزاء العظيم، اغتباطاً بما صاروا فيه بسبب ما تقدّم منهم من تصديق الرسل وظهور صدق ما أخبروهم به في الدنيا من أن جزاء الإيمان والعمل الصالح هو هذا الذي صاروا فيه.
قوله: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} أي وقع النداء لهؤلاء الذين آمنوا وعملوا الصالحات، فقيل لهم تلكم الجنة أورثتموها، أي ورثتم منازلها بعملكم. قال في الكشاف: بسبب أعمالكم لا بالتفضل كما تقوله المبطلة انتهى.
أقول: يا مسكين هذا قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم فيما صح عنه: «سدّدوا وقاربوا واعلموا أنه لن يدخل أحد الجنة بعمله، قالوا: ولا أنت يا رسول الله؟ قال: ولا أنا إلا أن يتغمدني الله برحمته» والتصريح بسبب لا يستلزم نفي سبب آخر. ولولا التفضل من الله سبحانه وتعالى على العامل باقداره على العمل، لم يكن عمل أصلاً، فلو لم يكن التفضل إلا بهذا الإقدار، لكان القائلون به محقة لا مبطلة، وفي التنزيل: {ذلك الفضل مِنَ الله} [النساء: 70] وفيه: {فَسَيُدْخِلُهُمْ فِى رَحْمَةٍ مَّنْهُ وَفَضْلٍ} [النساء: 175].
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {لاَ تُفَتَّحُ لَهُمْ أبواب السماء} يعني: لا يصعد إلى الله من عملهم شيء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، قال: لا تفتح لهم لعمل ولا لدعاء.
وأخرج عبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عنه، أيضاً في الآية قال: لا تفتح لأرواحهم، وهي تفتح لأرواح المؤمنين.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عنه أيضاً {حتى يَلِجَ الجمل} قال: ذو القوائم {فِى سَمّ الخياط} قال: في خرت الإبرة.
وأخرج عبد الرزاق، والفريابي، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، والطبراني في الكبير، وأبو الشيخ، عن ابن مسعود، في قوله: {حتى يَلِجَ الجمل} قال: زوج الناقة.
وأخرج أبو عبيد، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وأبو الشيخ، من طرق عن ابن عباس، أنه كان يقرأ: {الجُمّل} بضم الجيم وتشديد الميم. وقال: هو الحبل الغليظ أو هو من حبال السفن.
وأخرج عبد بن حميد، عن ابن عمر، أنه سئل عن سم الخياط فقال: الجمل في ثقب الإبرة.
وأخرج ابن المنذر، عن ابن عباس قال: المهاد الفراش، والغواش اللحف.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن محمد بن كعب مثله.
وأخرج عبد الرزاق، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن علي بن أبي طالب، قال: فينا والله أهل بدر نزلت هذه الآية {وَنَزَعْنَا مَا فِى صُدُورِهِم مّنْ غِلّ}.
وأخرج النسائي، وابن جرير، وابن مردويه، عن أبي هريرة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل أهل النار يرى منزله من الجنة يقول لو هدانا الله. فيكون حسرة عليهم، وكل أهل الجنة يرى منزله من النار، فيقول لولا أن هدانا الله. فهذا شكرهم».
وأخرج ابن أبي شيبة، وأحمد وعبد بن حميد، والدارمي، ومسلم، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن أبي سعيد، وأبي هريرة، عن النبي صلى الله عليه وسلم: {وَنُودُواْ أَن تِلْكُمُ الجنة أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ} قال: «نودوا أن صحوا فلا تسقموا، وانعموا فلا تبأسوا، وشبوا فلا تهرموا، واخلدوا فلا تموتوا».


مناداة أصحاب الجنة لأصحاب النار لم تكن لقصد الإخبار لهم بما نادوهم به، بل لقصد تبكيتهم وإيقاع الحسرة في قلوبهم، و{أَن قَدْ وَجَدْنَا} هو نفس النداء، أي إنا قد وصلنا إلى ما وعدنا الله به من النعيم، فهل وصلتم إلى ما وعدكم الله به من العذاب الأليم؟ والاستفهام هو للتقريع والتوبيخ. وحذف مفعول وعد الثاني لكون الوعد لم يكن لهم بخصوصهم، بل لكل الناس كالبعث والحساب والعقاب. وقيل حذف لإسقاط الكفار عن رتبة التشريف بالخطاب عند الوعد: {قَالُواْ نَعَمْ} أي وجدنا ما وعدنا ربنا حقاً. وقرأ الأعمش والكسائي: {نعم} بكسر العين. قال مكي: من قال: {نعم} بكسر العين فكأنه أراد أن يفرّق بين نعم التي جواب وبين نعم التي هي اسم للبقر والغنم والإبل. والمؤذن: المنادي، أي فنادي مناد بينهم أي بين الفريقين؛ قيل: هو من الملائكة {أَن لَّعْنَةُ الله عَلَى الظالمين} قرأ ابن عامر، وحمزة، والكسائي، والبزي، بتشديد {أن} وهو الأصل. وقرأ الباقون بالتخفيف على أنها المخففة من الثقيلة أو المفسرة. وقرأ الأعمش بكسر همزة {إن} على إضمار القول، وجملة: {الذين يَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ الله} صفة للظالمين، ويجوز الرفع والنصب على إضمارهم، أو أعني. والصدّ: المنع، أي يمنعون الناس عن سلوك سبيل الحق {وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا} أي يطلبون اعوجاجها، أي ينفرون الناس عنها ويقدحون في استقامتها، بقولهم إنها غير حق وإن الحق ما هم فيه، والعوج بالكسر في المعاني والأعيان، ما لم يكن منتصباً، وبالفتح ما كان في المنتصب كالرمح، وجملة: {وَهُم بالآخرة كافرون} في محل نصب على الحال. قوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} أي بين الفريقين، أو بين الجنة والنار. والحجاب هو السور المذكور في قوله تعالى: {فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ} [الحديد: 13].
قوله: {وَعَلَى الأعراف رِجَالٌ} الأعراف: جمع عرف، وهي شرفات السور المضروب بينهم، ومنه عرف الفرس وعرف الديك والأعراف في اللغة: المكان المرتفع، وهذا الكلام خارج مخرج المدح كما في قوله: {رِجَالٌ لاَّ تُلْهِيهِمْ تجارة وَلاَ بَيْعٌ عَن ذِكْرِ الله} [النور: 37].
وقد اختلف العلماء في أصحاب الأعراف من هم؟ فقيل هم الشهداء، ذكره القشيري وشرحبيل بن سعد. وقيل: هم فضلاء المؤمنين، فرغوا من شغل أنفسهم وتفرّغوا لمطالعة أحوال الناس ذكره مجاهد. وقيل: هم قوم أنبياء، ذكره الزجاج. وقيل: هم قوم استوت حسناتهم وسيئاتهم، قاله ابن مسعود وحذيفة بن اليمان، وابن عباس والشعبي، والضحاك وسعيد بن جبير. وقيل هم العباس وحمزة وعلي وجعفر الطيار، يعرفون محبيهم ببياض الوجوه، ومبغضيهم بسوادها، حكي ذلك عن ابن عباس؛ وقيل: هم عدول القيامة الذين يشهدون على الناس بأعمالهم وهم في كل أمة، واختار هذا القول النحاس.
وقيل هم أولاد الزنا، روي ذلك عن ابن عباس. وقيل: هم ملائكة موكلون بهذا السور، يميزون الكافرين من المؤمنين قبل إدخالهم الجنة والنار، ذكره أبو مجلز.
وجملة: {يَعْرِفُونَ كُلاًّ بسيماهم} صفة لرجال والسيما العلامة، أي يعرفون كلاً من أهل الجنة والنار بعلاماتهم كبياض الوجوه وسوادها، أو مواضع الوضوء من المؤمنين، أو علامة يجعلها الله لكل فريق في ذلك الموقف، يعرف رجال الأعراف بها السعداء من الأشقياء.
{وَنَادَوْاْ أصحاب الجنة} أي نادى رجال الأعراف أصحاب الجنة حين رأوهم {أَن سلام عَلَيْكُمْ} أي نادوهم بقولهم سلام عليكم، تحية لهم وإكراماً وتبشيراً، أو أخبروهم بسلامتهم من العذاب.
قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} أي لم يدخل الجنة أصحاب الأعراف، والحال أنهم يطمعون في دخولها. وقيل معنى: {يَطْمَعُونَ} يعلمون أنهم يدخلونها، وذلك معروف عند أهل اللغة، أي طمع بمعنى علم. ذكره النحاس. وهذا القول أعني كونهم أهل الأعراف مرويّ عن جماعة منهم ابن عباس وابن مسعود.
وقال أبو مجلز: هم أهل الجنة، أي أن أهل الأعراف قالوا لهم {سلام عليكم} حال كون أهل الجنة لم يدخلوها والحال أنهم يطمعون في دخولها.
قوله: {وَإِذَا صُرِفَتْ أبصارهم تِلْقَاء أصحاب النار} أي إذا صرفت أبصار أهل الأعراف تلقاء أصحاب النار أي جهة أصحاب، وأصل معنى {تِلْقَاء} جهة اللقاء، وهي جهة المقابلة، ولم يأت مصدر على تفعال بكسر أوّله غير مصدرين، أحدهما هذا، والآخر تبيان. وما عداهما بالفتح {قَالُواْ} أي قال أهل الأعراف {رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ القوم الظالمين} سألوا الله أن لا يجعلهم منهم {ونادى أصحاب الأعراف رِجَالاً} من الكفار {يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم} أي بعلاماتهم {قَالُواْ} بدل من نادى {مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ} الذي كنتم تجمعون للصدّ عن سبيل الله، والاستفهام للتقريع والتوبيخ.
قوله: {وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ}. {ما} مصدرية، أي وما أغنى عنكم استكباركم {أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ} هذا من كلام أصحاب الأعراف، أي قالوا للكفار مشيرين إلى المسلمين الذين صاروا إلى الجنة هذه المقالة.
وقد كان الكفار يقسمون في الدنيا عند رؤيتهم لضعفاء المسلمين بهذا القسم. وهذا تبكيت للكفار وتحسير لهم.
قوله: {ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ} هذا تمام كلام أصحاب الأعراف، أي قالوا للمسلمين ادخلوا الجنة، فقد انتفى عنكم الخوف والحزن بعد الدخول. وقرأ طلحة بن مصرف {أدخلوا} بكسر الخاء.
وقد أخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، عن ابن عباس، في قوله: {أَن قَدْ وَجَدْنَا مَا وَعَدَنَا رَبُّنَا حَقّا} قال: من النعيم والكرامة {فَهَلْ وَجَدتُّم مَّا وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقّا} قال: من الخزي والهوان والعذاب.
وأخرج ابن أبي شيبة، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن ابن عمر: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما وقف على قليب بدر تلا هذه الآية.
وأخرج ابن جرير، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ عن السديّ، في قوله: {وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} قال: هو السور، وهو الأعراف، وإنما سمي الأعراف لأن أصحابه يعرفون الناس.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن المنذر، عن حذيفة قال: الأعراف سور بين الجنة والنار.
وأخرج عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وابن أبي شيبة، وعبد بن حميد، وابن جرير وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، والبيهقي في البعث والنشور، عن ابن عباس قال: الأعراف هو الشيء المشرف.
وأخرج الفريابي، وعبد بن حميد، وابن جرير، وأبو الشيخ، عنه، قال: الأعراف سور له عرف كعرف الديك.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن سعيد بن جبير، قال: الأعراف جبال بين الجنة والنار، فهم على أعرافها، يقول على ذراها.
وأخرج ابن جرير، عن ابن عباس، أنها تلّ بين الجنة والنار حبس عليه ناس من أهل الذنوب وأخرج ابن أبي حاتم، عن ابن جرير، قال: زعموا أنه الصراط.
وأخرج ابن جرير، عن حذيفة قال: أصحاب الأعراف قوم كانت لهم أعمال أنجاهم الله بها من النار، وهم آخر من يدخل الجنة، قد عرفوا أهل الجنة وأهل النار.
وأخرج ابن جرير، عن ابن مسعود: أنهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم يقفون على الصراط.
وأخرج ابن جرير عن حذيفة نحوه. وكذا أخرج نحوه عنه عبد الرزاق، وسعيد بن منصور، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وأبو الشيخ.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، وابن عساكر، عن جابر بن عبد الله نحوه.
وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، عن أبي زرعة بن عمرو بن جرير قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف؟ فقال: «هم آخر من يفصل بينهم من العباد، فإذا فرغ ربّ العالمين من الفصل بين العباد، قال: أنتم قوم أخرجتكم حسناتكم من النار، ولم تدخلوا الجنة فأنتم عتقائي، فارعوا من الجنة حيث شئتم» قال ابن كثير: وهذا مرسل حسن.
وأخرج البيهقي في البعث عن حذيفة أراه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يجمع الناس يوم القيامة، فيؤمر بأهل الجنة إلى الجنة، ويؤمر بأهل النار إلى النار، ثم يقال لأصحاب الأعراف ما تنتظرون؟ قالوا: ننتظر أمرك، فيقال لهم: إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها، وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم، فادخلوا بمغفرتي ورحمتي».
وأخرج سعيد بن منصور، وابن منيع، وعبد بن حميد، وابن جرير، وابن أبي حاتم، والطبراني، وأبو الشيخ وابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن عبد الرحمن المزني قال: سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن أصحاب الأعراف؟ فقال: «هم قوم قتلوا في سبيل الله في معصية آبائهم، فمنعهم من النار قتلهم في سبيل الله، ومنعهم من الجنة معصيتهم آباءهم».
وأخرج الطبراني، وابن مردويه بسند ضعيف عن أبي سعيد الخدري مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن مردويه، والبيهقي في البعث، عن أبي هريرة مرفوعاً نحوه أيضاً.
وأخرج الحارث بن أبي أسامة في مسنده، وابن جرير، وابن مردويه، عن عبد الله بن مالك الهلالي، عن أبيه مرفوعاً نحوه.
وأخرج ابن مردويه، عن ابن عباس مرفوعاً نحوه.
وأخرج أبو الشيخ، وابن مردويه، عن رجل من مزينة مرفوعاً نحوه.
وأخرج أبو الشيخ، عن أبي عبيدة بن محمد بن عمار، أنه سئل عن قوله: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} قال: سلمت عليهم الملائكة وهم لم يدخلوها وهم يطمعون أن يدخلوها حين سلمت.
وأخرج ابن جرير، وأبو الشيخ، عن السديّ قال: أصحاب الأعراف يعرفون الناس بسيماهم، أهل النار بسواد وجوههم، وأهل الجنة ببياض وجوههم، فإذا مرّوا بزمرة يذهب بهم إلى الجنة، قالوا سلام عليكم، وإذا مرّوا بزمرة يذهب بها إلى النار قالوا ربنا لا تجعلنا مع القوم الظالمين.
وأخرج ابن جرير وابن أبي حاتم، عن ابن عباس {ونادى أصحاب الأعراف رِجَالاً} قال: في النار {يَعْرِفُونَهُمْ بسيماهم قَالُواْ مَا أغنى عَنكُمْ جَمْعُكُمْ وَمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ} قال الله لأهل التكبر {أهؤلاء الذين أَقْسَمْتُمْ لاَ يَنَالُهُمُ الله بِرَحْمَةٍ}؟ يعني أصحاب الأعراف {ادخلوا الجنة لاَ خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلا أَنتُمْ تَحْزَنُونَ}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8